محمد دبوان المياحي

محمد دبوان المياحي

معاذ الجنيد.. هل هو شاعر؟

مقالات الرأي Thursday 20 October 2022 الساعة 06:04 pm

بمعيار بدائيّ، بدائيّ فقط؛ يمكن القول: إن الجنيد شاعر، ويمكنك أن تضيف: لقد كان شاعر في أطواره الأولى يتغزّل بحبيبته وينثر عواطفه السائلة ولا حرجْ عليه. لكنك ستكون عرضة لسخط الرب فيما لو تجرأت وقلت بلغة مطلقة : إنه شاعرُ مكتمل ولا نقاش في هذا. هنا سيكون عليك تهيئة نفسك للعقاب، للسخرية وستكون جديرًا بالشتيمة أيضًا. 


ما هو الشعر..؟ الشعر بمفهومه العالي، كلغة لكشف الوجود وتهيئة الأرض للأسرار الكونية الجديدة. "ما يبقى يُؤسسه الشعراء " يقول هايدغر. الشعر كنافذة مع الغيب، جسر لغواية الأبدية ووعاء لتنزّل الوحي. الشعراء كورثة للأنبياء ونماذج للنبوة المؤهلة بذاتها دونما عون من الآلهة. إنهم البشر الوحيدون من يحق لهم صياغة التشريعات الأساسية للوجود، المشرعون الأبطال، المصدر الأول للمعنى، من يسهرون لاستقدام حقائق جديدة ويهيؤن العالم للبقاء، ويهيؤن العالم للبقاء. بدونهم نواجه شكوكًا مرهقة عن مشروعية وجودنا، تنهار أرضية الحياة، ويكون الإنسان عرضة لوحشة الفناء. 

هل في شعر الجنيد ما يتضمن شيء من هذا القبس الخالد..؟ هل فيه شرارة من علوم الجن أو لمسة من بيان يوحي بمعجزة في الكلام، بحكمة عابرة للزمان والمكان. 


لا تحدثني عن أنه شاعر رهيب، يتلو قصائدة بحماسة ويخلب الألباب. هذا ليس معيارًا لشاعرية عالية، بهذا المستوى هو شاعر بدائي يتقن البحور ويجيد قول أفكار بالية. يصبها في قوالب جاهزة. وإذا ما عصرت كل ما قاله منذ ميلاده حتى اليوم، لن تخرج بفكرة واحدة شاعرية، جملة تقدح ذهنك وتدفعك للذهول، خلاقة وتنبئ عن كشف عبقري أو نباهة عالية. هل لديه رؤية للوجود ولو كانت غامضة وفي طور التشكل، لا بأس، هل تمنحكم قصائدة احساسًا خفيًّا بوضوح داخلي تجاه حقائق الحياة والأشياء..؟ تالله إنك لا تكاد تجد سوى مجموعة قصائد متناثرة؛ تعبر عن شتات داخلي رهيب، اضطراب ؛ تضاعفت قوته أكثر بعد التحاقه بالجماعة الضآلة. 


كان يمكن للجنيد أن يتطوَّر كشاعر متمكن من أدوات الشعر الأولى، كان يُحتمل أن يهتدي لتأملات جيدة وفارقة؛ تصعد بمحتوى شاعريته؛ لكنه تعرض لنكسة وجودية، جعلته ينحدر بمضامينه الشعرية ويتحول لمهرج فصيح. مزمار يطلق صفارته ويذود عن رؤية قبيلة تنتمي لزمن ما قبل ميلاد الإنسان. الفصل في شاعرية الرجل من عدمها، يعود لمعيارك الشعري، يمكنك أن تمنحه مقعدًا في ميدان الشعر إذا كان تصورك الفلسفي لماهية الشعر يتقبل وجود شاعر كالجنيد ولا يكترث لجوهر ما يقوله. ستقول عنه شاعر. 


الأمر ليس اتباع معيار قيمي أو سياسي للاعتراف بالرجل أو تجريده من قيمته الشاعرية؛ لكن المقصد أننا حتى لو تجاوزنا صبغته الأيديولوجية وانحيازه السياسي الملوث، فالرجل خفيض جدا في مستواه الشاعري. ولو عزلت قصائدة عن مؤثرات الصوت، واتبعت وصية نيتشه لتجريد شعره من الايقاع، ومعاينة فحواه بشكل مجرد؛ ستشعر بالرعب من تلاشيه وانتفاء أي قيمة لشعره. 


عندها؛ سينتهي بك الحال أن تمنحه مقعدًا في ذيل القائمة وربما تعاود النظر مرة ثانية وتقول في نفسك: هذا الرجل لم يضف للحياة قصيدة واحدة جديرة بالخلود. قصيدة تصلح أن تقف أمام حشد من البشر من مختلف مناطق الدنيا؛ كي تتلوها عليهم ثم تقول لهم هذه قصيدة لشاعر يمني ولا تشعر بالخوف منهم والخجل من نفسك. لا وجود لقصيدة عابرة للزمن في شعر الرجل، ولو جربت أن تلقي قصيدة له أمام بشر يقدسون الكلام، لربما تتفاجئ حين يقذفوك بالأحذية ويطردوك من أمامهم شر طردة. ولسوف ت ل ع ن اليوم الذي عرفته فيه أو قرأت شعره. 


الخلاصة المهمة من هذا كله: متى يرتقي شاعر ليصبح جديرًا أن ندرجه ضمن مناهج التعليم..؟ عندما يصعد بشعره ليكون شاعرًا كونيًا، شاعرًا يمثل الروح العليا للأمة، خلاصة تجاربها وأحلامها وتعبيرًا عن العقل الكلي للأجيال، تجد في شعره تماس مباشر مع القيم النهائية للحياة. ليس كمفردات متناثرة، بل كخيط ناظم ومتواصل؛ يكشف عن رؤية واضحة للعالم. الشاعر هنا بمثابة أقصى تكثيف لانفعالات البشر، يملك قدرة عليا أن يضع الخطوط الأساسية لمسيرة الأمة، يستخلصها منها أو يرشدها إليها. ماذا عن الجنيد..؟ ليس سوى عاثر حظ يلعب دورًا في تخريب المبادئ الأولية للحياة، وقولنا "تخريب" لا يعني أنه عدمي خلاق، بهذه الحالة حتى لو كان يمجّد القتل، لا يمكننا تجريده من شاعريته؛ لكنه بصفة كلية شاعر ذو اهتمامات بدائية، ومدارات اشتغال الفنان، تسهم في ارتقاءه شاعريا أو تسحبه للهاوية. الجنيد من الطراز الثاني وبدلا من اعادة تأهيله نفسيًا؛ نمنحه شرفًا لا يستحق وندعه يلوث عقول الأجيال بهذياناته، وباسم الموضوعية المتراخية والذائقة المنخفضة، نقول عنه شاعر.

جميع الحقوق محفوظة لموقع صوت الوطن

نرحب بتواصلكم مع موقع صوت الوطن عبر التواصل معنا من خلال صفحتنا في فيسبوك من هــنــا

تابعونا ايضاً من خلال الاطلاع على جديد اخبارنا في صفحة Google News عبر الضغط هنا

تويتر المزيد